وهنا مسألة خطيرة يقع فيها كثير من الناس، وبالذات العوام منهم، فهم يخلطون في مسألة، ويظنون أن التوكل على الله سبحانه وتعالى معناه ألا يتعاطى الإنسان معه الأسباب ولا يأخذ بها.
يقول المصنف رحمه الله: "وقد ظن بعض الناس أن التوكل ينافي الاكتساب وتعاطي الأسباب" لا يكتسب ولا يتعاطى الأسباب ويحتج بأنه متوكل! "وأن الأمور إذا كانت مقدرة فلا حاجة إلى الأسباب" يحتج هذا الذي يزعم أنه متوكل ويقول: ما دامت الآجال والأرزاق مكتوبة فلماذا آخذ بالأسباب؟! الرزق مقدر لي، فلماذا أجتهد لأنال شيئاً من الرزق؟! والعافية مقدرة لي أيضاً، فلماذا أجتهد في طلب العافية؟!
"وهذا فاسد، فإن الاكتساب منه فرض ومنه مستحب".
وتعتبر الصوفية من أعظم الناس ضلالاً في باب التوكل، حتى قال قائل منهم: لا حاجة للدعاء، ومع الأسف فقد انتشرت مقولة بين العوام تقول: (علمك بحالي يغنيك عن سؤالي)، سبحان الله! نعم.. الله تعالى عليم بحالك، لكنه أمرك أيضاً أن تدعوه.
والصوفية جاءوا في هذا الباب بالعجب العجاب، حتى إن أبا حامد الغزالي جعل للتوكل مقامات ودرجات:
الدرجة الأولى: أن يمشي الإنسان في الصحراء بغير زاد ولا مؤونة توكلاً على الله، وثقة بأنه سوف ييسر له الرزق.. قال: وهذه أعلى مراتب التوكل، وهي مرتبة الخوَّاص ونظرائه؛ والخواص ونظراؤه هم من الصوفية المشائين السائحين، فإما أن يتيسر له ما يأكله أو يأكل عشباً أو أي شيء.
هذا غاية التوكل عند الصوفية، وهو ما أبطله الله بقوله تعالى: ((وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ))[البقرة:197] فقد كان بعض الناس يحجون ولا يتزودون، فأمرهم الله بأن يتزودوا، ونبههم إلى أن خير الزاد هو التقوى، ولا تعارض بينهما، فتزودوا من الدنيا، ولكن خير الزاد فيها هو التقوى، فهذه أعلى درجات التوكل عند الطبقة العليا من الصوفية؛ فلا يكتسب ولا يتعاطى، ولا يقيم بمكان فيه أسباب الرزق، وإنما يذهب إلى الصحراء حيث لا سبب، وإنما يثق بالله ويتوكل عليه.
الدرجة الثانية: وهم أقل توكلاً، وهم الذين يقيمون في الأمصار والقرى، ويمكثون في المساجد يذكرون الله سبحانه وتعالى ويتعبدونه، ويتوكلون على الله في رزقهم اعتماداً على ما يقدم إليهم من صدقة أو هدية أو عطية من الناس، وهؤلاء أقل درجة من الأولين.
يقول الغزالي : "وهذا أقل توكلاً من سابقه؛ لأنه في مكان متعرض فيه للأسباب" لأن الناس عادة إذا رأوا أحداً في المسجد أعطوه، فهذا متعرض للأسباب، وهو أقل إيماناً من ذلك الذي خرج بلا سبب.
ويجاب عليهم بأن أعلى المتوكلين درجة هو الرسول صلى الله عليه وسلم، فهل فعل شيئاً من هذا؟! هل ألقى بنفسه في المهالك وألقى أصحابه معه؟! لا.